في رحلتي إلى الماضي ، وقفت في إحدى أستراحات الزمن ،، وتذكرت كم كنت تافهاً ساذجاً عندما ذهبتُ إليه أولَ مرةً ، لأطلب منه قوت يومي ، شكوت إليه فقري ، وقلة حيلتي ، وبعثرتُ شيئاً من كرامتي وماء وجهي عندما تفوَّه بكلماتٍ لم أسمعها ، بل ربما أقنعت نفسي أنني لم أسمعها قبل أن يفتح محفظته ويبحث ع...ن خمسة دنانير تختبئُ هنا أو هناك بين مئات الدنانير التي كادت أن تمزِّق المحفظة ، وجدها ثم قال لي من أنفه :- " خُذ
وخرجت من مكتبه غارقا بشعورين متناقضين تماماً ، شعور فرحةٍ وتجلّي ، وكأنني طفلٌ قد حصل على عيدية العيد ، وشعور حزنٍ وإنكسار ، فعاهدت نفسي ألا أعود مرةً أخرى ، وفعلاً لم أعد مرةً بل أصبحت كلما عجزت عن تأمين قوتي ذهبت لهُ ، والموقف يكرر نفسه .
وبعد مدةٍ قد طالت ، ذهبت إليه كعادتي ، تفاجأت به يعطيني مئة دينار ويقول لي :- " لا أعطيك إياها حتى لا أراك شهراً ، بل أعطيك إياها حتى لا أراك الدهر كلَّه ، هل فهمت ؟ "
جاوبته بلا ترددٍ وبكلِّ ثقةٍ :- نعم فهمت " ، جاوبته وكأنني أفلاطون زماني دون أن أفكر حتى للحظةٍ ماذا يقصد ؟
خرجت من مكتبه محتاراً ، وكأن جداراً قد تحرَّك فصدمني ، يا ترى ماذا يقصد بما قاله ، هل يريدني أن أعيش حياتي بأكملها بمئة دينار ، إنه أمراً مستحيل ،! ، وفجأة نادتني جملةٌ من بعيد لم أرها من قبل ، وكأنها كتِبَت من أجلي ، تقول :- " علِّمني كيف أصيد السمك ، خيرٌ من أن تعطيني كلَّ يومٍ سمكة "
لم أعد أفكر فيما قد قاله ، فربما من الغباء أن أفكر للحظةٍ بعد أن قرأت تلك العبارة ، بل أصبحت أفكر كيف لي أن أصطاد السمك في بحر المئة دينار التي أعطاني إياها ، وجدتُ فكرةً هي من كياني ومن ذاتي ، لماذا لا أشتري مجموعة من الصحف والكتب وأبيعها ، فمنذ طفولتي وأنا أهوى الأدب ، وكم حلمتُ أن أنشر شيئاً لي في أي جريدةٍ أو مجلة ، وفعلا باليوم التالي أستيقظت قبل الديك بقليل ، نزلت إلى السوق واشتريت مجموعة من الكتب والصحف وبدأت ببيعها ، كان ذلك اليوم هو اليوم الأول الذي أحصل به على قوتي دون أن أشعر بمذلةٍ بل شعرت بلذَّة الطعام وكانني لم آكل منذ ولادتي.
بدأت أطمح بغدٍ وأراه أمامي واقعا ، لماذا لا أستأجر غرفةً بسيطة وأجعلها مكتبةً لقراءة الكتب وبيعها ، وفعلاً بدأ مشروعي يتنامى شيئا فشيئاً ، حتى أستيقظت يوما من الأيام وفتحت الجريدة وأنا أشرب قهوتي لأقرأ كيف أستيقظت الدنيا ؟ وإذ بعرضٍ جذب كل كياني إليه ، إنه عرضٌ لبيع مجلةٍ كنت قد عشقت كل كلمةٍ فيها ، بل أفكاري قد أرتوت من كلِّ فكرةٍ قد وردت بها ، العرض مغرياً وأنا أملك من مالي نصف ثمنها ، والنصف الآخر قد أقترضته ، أشتريت المجلة وبدأت أرعاها وأسهر لها وكأنها أبنتي ، وبدأت أشعر بلذّة المال ولذَّة شعور كل من يقرأها .
أنا تعلمت كيف أصيد السمك .
ولكن ... مذا عنك ؟